الرقة (سورية): روبرت وورث *
كانت المزارع التي تنتشر في شمال وشرق هذه المدينة الواقعة على نهر الفرات، في السابق سلة غذاء المنطقة، بمساحاتها الشاسعة من حقول القمح الذهبي وقطعان الأغنام. والآن وبعد أربع سنوات متعاقبة من الجفاف، يبدو أن هذه المدينة التي كانت تشكل قلب الهلال الخصيب ـ الذي يضم أجزاء كبيرة من جارتها العراق ـ في طريقها إلى التحول إلى صحراء قاحلة، بحسب توقعات خبراء المناخ.
فقد انهار نظام الري التقليدي ونضبت موارد المياه الجوفية وخلت مئات القرى من سكانها لتتحول المزارع إلى صحارى قاحلة، وماتت الحيوانات، ناهيك عن أن العواصف الرملية باتت أكثر شيوعا، وانتشرت مدن الخيام الواسعة من الفلاحين المهجرين وعائلاتهم حول المدن الكبرى في سورية والعراق. ويقول أحمد عبد الله (48 عاما)، وهو مزارع يعيش في خيمة مع زوجته وأولاده الاثني عشر: «كنت أملك 400 هكتار من القمح والآن تحولت جميعها إلى صحراء قاحلة. لقد أجبرنا على الهرب، والآن نعيش على الكفاف، فلا مال ولا وظائف ولا أمل». وهناك كثير من المهاجرين ممن هم على شاكلة أحمد.
وتحول انهيار المزارع هنا، التي ربما تعود أسبابها في كثير منها إلى سوء الإدارة البشرية كما هو الحال مع الجفاف، إلى تحد اقتصادي كبير وهاجس أمني بالنسبة للحكومتين السورية والعراقية، اللتين أصبحتا أكثر اعتمادا على الدول الأخرى في الحصول على الغذاء والماء. سورية التي كانت تفتخر بنفسها من قبل باكتفائها الذاتي وحتى تصديرها للقمح، أصبحت تستورده الآن بنسبة أكبر. فقد انخفضت موارد المياه لدى الدولة بمقدار النصف بين عامي 2002 و2008، وربما يعود السبب في ذلك، بحسب آراء مهندسي وخبراء المياه، إلى التبديد والإسراف في استخدام المياه.
وتضيف هذه الأزمة تحديا جديدا لسورية، التي نفد احتياطها من النفط وتناضل لجذب استثمارات أجنبية، لأن الأزمة موجودة في المنطقة التي تتركز فيها الأقلية الكردية، في الوقت الذي يواجه فيه العراق، الذي دمرته الحرب، أزمة مياه في الشمال والجنوب وهي أزمة ربما تكون غير مسبوقة في تاريخه. وتشكو كلتا الدولتين من انخفاض منسوب المياه في نهر الفرات، بفضل مشاريع السدود العملاقة المقامة على النهر في تركيا التي يتوقع أن تولد المزيد من التوترات مع تفاقم أزمة المياه. ودفع الجفاف الذي يواصل عامه الرابع في سورية، ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين سوري إلى فقر مدقع، بحسب الإحصاء الذي اكتمل هنا هذا الشهر، والذي قام به المقرر الخاص للجنة الحق في الغذاء التابعة للأمم المتحدة، أوليفر دي شوتر، حيث فقد مربو الماشية في شمال شرقي البلاد 85 في المائة من الماشية، وتضرر ما لا يقل عن 1.3 مليون شخص. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 50 ألف عائلة هاجرت من المناطق الريفية هذا العام، إضافة إلى مئات الآلاف من الأفراد الذين هجروا المنطقة في الأعوام السابقة. ويؤكد دي شوتر على أن النمو السكاني الكبير في سورية أثر على قدرتها على استيعاب أكثر من مليون لاجئ عراقي خلال السنوات التي تلت غزو عام 2003.
ويقول رامي زريق، أستاذ الزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي ألف كتابا عن أزمة الزراعة: «إنه لمن المثير للسخرية، أن تتحول هذه المنطقة التي كانت موطنا للقمح والشعير، إلى واحدة من أكبر مستوردي هذه المنتجات».
وتحول هذا الجفاف إلى مسألة حساسة بالنسبة للحكومة السورية، التي لا تمنح الصحافيين الأجانب التصريح الرسمي للكتابة بشأنها أو الفرصة للوصول إلى المسؤولين في وزارة الزراعة. وعلى الطرق إلى الجنوب من دمشق، يمكن مشاهدة المزارعين النازحين ومربي الماشية يعيشون في الخيام، لكن المداخل تخضع لرقابة مكثفة من عملاء الأمن السوري لعدم السماح للصحافيين بالدخول. وتشير جنين سويرز، الأستاذة بجامعة نيو هامبشاير، الأميركية، التي ألفت كتبا حول القضايا المناخية في منطقة الشرق الأوسط، إلى أن الجفاف كان دائم الحدوث هنا، لكن «المناخ الإقليمي يتغير بصورة ملحوظة الآن، وسواء اعتبرته تغيرا مناخيا من صنع الإنسان أم لا، فإن كثيرا من أجزاء المنطقة بات أكثر حرارة وجفافا، إلى جانب الأمطار الغزيرة والفيضانات في بعض المناطق. وسيقوم بعض الأفراد بالهجرة نتيجة لذلك، والحكومات غير مستعدة بدرجة كافية لذلك».
ونتيجة لذلك، بدأت الحكومة السورية في الاعتراف بمدى نطاق الأزمة وقامت بإعداد خطة جفاف قومية، على الرغم من أنها لم تبدأ في تنفيذها بعد. ويقول إيلي الحاج، المؤلف السوري المولد، الذي كتب أطروحته للدكتوراه حول التصحر، إن سوء التخطيط أسهم في خلق المشكلة في المقام الأول، فقد أنفقت الحكومة السورية 15 مليار دولار على مشاريع ري عديمة الجدوى في الفترة بين عامي 1988 و2000 ولم تحقق سوى نتائج هزيلة. وتواصل الحكومة السورية زراعة القطن والقمح في المناطق التي تفتقر إلى المياه ـ مما يجعلها أكثر عرضة للجفاف ـ لأن الحكومة ترى في القدرة على إنتاج مثل هذه المحاصيل جزءا من هويتها وحصنا من الاعتماد على الغرب. ولا توجد إحصاءات موثوق بها على الصعيد الوطني حول حجم مخزون المياه، ويقول بعض المحللين والدبلوماسيين الغربيين إنهم يعتقدون أن الحكومة السورية لا تقوم بقياس مستوى المياه الجوفية. وكما هو الحال في البلدان الأخرى في العالم العربي، فإن السبب في كثير من الأحيان يكون الفساد والفشل الإداري. ويقول نبيل سكر، وهو محلل اقتصادي يتخذ من دمشق مقرا له: «إن كثيرا من أصحاب النفوذ لا يلتزمون بالضوابط ولا يوجد من يستطيع إيقافهم».
* خدمة «نيويورك تايمز»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق