الاثنين، 1 مارس 2010

عندما يكتب الفقر رسالة الموت

النداء

لن يفلح أي كاتب في وصف ما يجري هنا، ولا يمكن لأي قاص أن يكتب القصص والحكايا، وحده الفقر يرسم خارطة الموت البطيء لجزيرة الخيرات في سورية، الجزيرة التي ظلت دوماً سلة الغذاء السورية، تفترس من قبل أقدم أعداء البشرية وأكثرهم ضراوة؛ إنه الفقر الذي ينهش أجساد الناس هنا وأحلامهم.
في سوق المكاريد التقينا أبو ميزر (جمع مكرود وتعني بالعربية الشاوية المنبوذ وتعيس الحظ)؛ سوق المكاريد ليست التسمية الرسمية لهذا السوق بل إنه وصف فضل أبو ميزر أن يصفه به، هذا السوق الذي يجتمع فيه كل صباح المواطنون السوريون العرب القادمين من قرى وريف جنوب القامشلي وخاصة تلك القرى المحيطة ببلدة تل حميس.
يقول أبو ميزر الخمسيني العمر "إنني آتي كل صباح لشراء بعض مستلزمات دكاني الصغير في القرية التي تبعد عشرين كيلومتراً من القامشلي، وما أقوم به تجوالاً بين أزقة هذا السوق، هو شراء بعض حاجيات أهل القرية من دواء ولباس وبعض الأغراض، حيث يفضلون أن يطلبوا من أي شخص أن ينزل للقامشلي ويشتري حاجياتهم من أن ينزلوا هم، وبذلك يستطيعون توفير أجرة الطريق ذهاباً وإياباً. كما أن سائقي السرافيس والميكروباصات الصغيرة التي تقوم بنقلهم من القرى إلى القامشلي، يقومون بنفس الشيء، حيث يشترون حاجيات الآخرين، في حين يفضل الأهالي عدم النزول إلى السوق، توفيراً للمصاريف الزائدة".
سوق المكاريد، على وصف أبو ميزر واحد من تلك الأسواق الكثيرة في القامشلي، التي باتت شبه خاوية إلا من بعض المتسوقين، والذين لهم حاجيات ضرورية يجب شراؤها، من قبيل الأدوية وبعض حاجيات البيوت غير المتوفرة في دكاكين القرى البسيطة.
صحفي كردي من القامشلي يصف الوضع بالقول "إن الأوضاع المعيشية لعرب المنطقة هي أسوء من أوضاع الأكراد فيها؛ صحيح أن الأوضاع بالمقارنة مع أوضاع البشر في المدن الأخرى كلها سيئة على الجميع، إلا أن عرب المنطقة يلفظون أنفاسهم بعد سنوات من الجفاف وانحباس الأمطار".
ويضيف "إن معظم الأكراد يمتهنون بعض الصناعات اليدوية، وغالباً ما يعملون في البناء والحدادة والأسمنت، والتمديدات الكهربائية، أي أن لديهم مهنة، كما أن كثيرين منهم هاجروا إلى الداخل السوري، حيث يجدون هناك ما يعملون به. في حين أن العرب نادراً ما تجد أحدهم يعمل في مثل تلك الأعمال؛ كان معظم قوتهم يعتمد على الزراعة وما تمنح الأرض من خيرات، أما بعد هذه السنون من القحط، فإن أحوالهم يرثى لها".
أم سلامة عجوز كبيرة في العمر من إحدى قرى ريف القامشلي قالت بلهجتها البدوية الجميلة "والله حنا ميتين، ليش الموت بس دفن بالتراب، لو تدور كل القرية ما تلاقي خمس مية ليرة".
أم سلامة مريضة بالسكري وزوجها مريض بالربو، يحتاجون شهرياً إلى ما لا يقل عن ألف ليرة سورية ثمن للدواء، ناهيك عن الأكل والشراب وما يحتاجه البيت من حاجيات ضرورية.
قصص المعاناة لا تنتهي؛ أحد الأستاذة من قرى تل حميس يروي لنا: "طلبت من الطلاب كتابة درس القراءة مرتين، وإذ بأحدهم كتبه مرة واحدة، فسألته لماذا؟ فرد علي قائلاً: "أستاذ أبوي قال لا تكتبها أكثر من مرة، لو خلص دفترك، ما عندي أجيبلك واحد جديد".
أحد مسؤولي حزب البعث من قرى تل حميس قال "نحن وضعنا قيادة الحزب بكل تفاصيل أوضاع الناس هنا، ولكن لا جدوى من هذا أبداً، بدون مبالغة إن الناس تموت جوعاً هنا، وما تنفع سلات الغذاء الممنوحة بأي شيء، فهي بحكم الفساد تهدر وتسرق".
المسؤول الذي فضل عدم ذكر اسمه أضاف "لقد طرحنا في اجتماعنا مع مجموعة وزراء جاؤوا إلى القامشلي، ضرورة منح المحافظة حلولاً إسعافية، إلا أنهم سمعوا وطنشوا".
الصحفي الكردي قال إن سياسات النظام السوري لتهجير وإفقار منطقة الجزيرة، لم تؤثر سلباً على أكرادها بقدر ما أثرت على السكان العرب وغيرهم، إن الجزيرة كلها تحترق بنيران الاضطهاد الحكومي، والنظام يسد أذانه عن أي مطلب من مطالبنا الإنسانية في العيش بأدنى مستويات الحياة الكريمة، فالناس هنا لا تريد سوى أن تأكل وتشرب وتجد مكاناً تأوي إليه".
الفقر هنا يكتب رسالة الموت غير المعلن، إنه يحضر جنازة الجزيرة السورية، صاحبة الخيرات، بقرة سورية الحلوب، بات أهلها إما مهجرين ونازحين في دمشق وحلب وباقي المدن السورية، أو غرباء في لبنان والأردن يعملون في أكثر الأعمال مشقة وخطورة، في حين أن الحكومة تغفل عن مشاكلهم، فلا تسعى لتحسين أوضاعهم عبر فتح مشاريع تنموية وصناعية وتجارية، وما تزال الجزيرة السورية محرومة من إيرادات النفط الذي يستخرج كله من أراضيها، كما حال كل الوطن.
أطلقت الحكومة السورية مشروع تنمية المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من سورية في آذار 2007، إلا أن هذه الفكرة ظلت في الأدراج ومرسومة على الأوراق، هذا إن كانت هناك مشاريع أصلاً، فلا معمل ولا مصنع ولا أي مشروع من شأنه إيجاد فرص عمل لأبناء الجزيرة، على العكس تماماً، وبحسب موظف في المصرف العقاري فرع الحسكة فإن المصرف قد قام بمنح أكثر من ثمانمائة مليون ليرة سورية على هيئة قروض لمشاريع وهمية، لبناء مصانع ومعامل بسيطة، ولا يوجد على أرض الواقع إلا الغبار، فأين تذهب أموال الشعب؟ وأين هي المشاريع التنموية أيتها الحكومة العتيدة؟
سوق المكاريد، أبلغ وصف لما آلت إليه أحوال البؤساء في الجزيرة، ولو كان فيكتور هوجو حياً يرزق لأعاد كتابة روايته "البؤساء" من جديد حيث سيكون أبطالها أهل الجزيرة السورية الخيرة، ولو كان الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجه حياً، لاستل سيفه، وكرر مراراً حكمته المشهورة "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".