زينة ارحيّم- عامر مطر - الأحد 28 شباط 2010
الجفاف والجوع يقتلع اهالي الجزيرة - السورية بين دجلة والفرات في شمال سوريا الشرقي، ويرميهم في مخيمات لجوء وعمل في الجنوب قريباً من دمشق. في مخيمات النزوح هذه تنشأ علاقات اجتماعية جديدة اقرب الى "اقطاع السخرة" الذي يؤسس لاحقاً للعمران العشوائي ومجتمعات البؤس الجديدة.
"أربعون عاماً أو أكثر"، هو الزمن الذي يشعر محمد الحمد بانقضائه على عشيه في المخيم، رغم أن عمره لا يتجاوز السابعة بعد. سبع سنوات عجاف، كما في الاساطير القديمة، عاشها محمد في خيمة صغيرة، مع عائلة وصل عدد أفرادها إلى ثلاثة عشر فرداً. من جفاف الجزيرة السورية التي تشمل محافظات الرقة، ودير الزور، والحسكة، هربوا إلى أرياف دمشق، ودرعا، وحمص، مع ستين ألف عائلة أخرى، بعد أن حكمت عليهم الجهات الرسمية السورية بالنسيان. مثل كل أطفال المخيم، لا يذهب محمد إلى مدرسة، فيمضي الوقت في جمع الحطب، واللعب بالحصى والتراب، متمنياً ان يسرع الزمن به، فيكبر ويصير شاباً وعاملاً سورياً في لبنان، كأخوته الثلاثة، أو عتّالاً كوالده. 60 الف عائلة نزحت من جفاف الجزيرة السورية، وحطت رحالها في مخيمات كثيرة على اطراف الجنوب السوري. واحد من المخيمات تنزل فيه عشرون عائلة، يتجاوز عدد الواحدة منها العشر، وتجمعهم صلات القربى والغربة والجفاف والنبذ والنسيان والفقر في هذا المخيم قرب كناكر التي تبعد 50 كلم من دمشق وامتاراً من بيوت كناكر نفسها. يعمل نازحو الجزيرة الصيف كله، النساء في الزراعة، والرجال في البناء وأي عمل آخر يحتاج الى جهد عضلي، متنازلين عن شروط الحماية من حرائق الشمس وصقيع الشتاء. فالمطر وتوقف العمل يحكمان عليهم بإقامة جبرية في خيمهم، لأن عودتهم الى منازلهم في القرى التي تتطلب 300 دولار، كأجرة سيارة تنقلهم مع خيمتهم، أي مايعادل أجرة عمل 60 يوماً.
الجفاف والعودة المستحيلة
هذه التكاليف الباهظة جعلت العودة الى القرية مرتبطة بحوادث الموت أو الأعراس التي أصبحت نادرة حالياً. يتشكل وفد صغير من المخيم، ليؤدي واجبات العزاء والتهاني بأقل التكاليف. أما العودة النهائية، فتنتظر عودة غزارة نهر الخابور والأمطار والزراعة إلى أراضي الجزيرة التي هجرها المطر منذ أربعين عاماً، وفق التقرير الأخير لمنظمة الأغذية الدولية "الفاو". وأدى رفع الحكومة سعر الوقود ثلاثة أضعاف قبل موسم الحصاد العام 2008 إلى زيادة تكاليف الري على المزارعين. فقفزت تكلفة دونم القمح من 80 دولاراً تقريباً، إلى مئتي دولار. هذا إضافة إلى خسارة من يملكون أقل من مئة رأس من الماشية - وهم يشكلون ثلث المربين تقريباً - ما يزيد عن 70 في المئة من قطعانهم، من دون أن يتمكنوا من تغطية تكاليف الأعلاف، ودفع فوائد القروض التي احتاجوا اليها لشرائها، وفق تقرير بعثة الأمم المتحدة المشتركة لتقييم أثر الجفاف في الجزيرة السورية. هذا ما دفع الناس الى الهجرة من مناطق، الجزيرة الزراعية، إلى المناطق الأخرى من سوريا، طلباً للعمل المأجور. ونتيجة هذه الظروف القاسية التي حملتهم على الرحيل من ديارهم سموا "نور الجزيرة". وفقاً لأحمد المهباش، رئيس اتحاد الفلاحين في الرقة. وفي الوقت نفسه، أكد زميله في الحسكة خضر المحيسن، أن "مستويات الفقر في شرق سوريا تبلغ 80 في المئة". وجهة الهجرة الغالبة لأهالي الجزيرة هي الجنوب السوري، للعمل في أرض الآخرين، تاركين خصوبة أراضيهم للجفاف وعبث الطقس والمناخ. فأغلب أراضي الجزيرة بين نهري دجلة والفرات تعتمد الآن، بعد الجفاف، على الزراعة البعلية ومياه الآبار الارتوازية. هذا فيما كانت الجزيرة تنتج 70 في المئة من القطن. أما المتضررون من الجفاف في السنوات العشرين الاخيرة، فيبلغ عدده 1,3 مليون شخص، وفقاً لأرقام الصندوق الانمائي للأمم المتحدة، والاحصاءات الحكومية.
الشاويش - الإقطاعي
في كل مخيم من مخيمات نازحي الجفاف، "شاويش"، أي مختار، يؤمّن فرص العمل لهم، ويقتطع من أجورهم حصّة قدرها نصف دولار عن كل يوم عمل، ويعطي العاملة ما يقارب ثلاث دولارات ونصف الدولار يومياً. أما العامل فتصل أجرته إلى خمسة دولارات ونصف في أيام العمل المؤقتة. أهالي مخيم كناكر يتبعون أبو فايز، "ابن عمهم" في لغتهم البدوية، وهو الشاويش الذي يسكن في خيمتين مع زوجتيه وأطفاله البالغ عددهم 16 ولداً. تتوسط الخيمتين الأزهار الاصطناعية الباهتة، وأعلام سوريا المهترئة من الرطوبة، ومدفأة الحطب المخزّن، "لأن البرد يمنعنا أحياناً، من الخروج للبحث عن الحطب، الذي يبعد وجوده 4 كلم من منطقتنا"، وفقاً لأبو فايز، الشاويش.
الجوع وسوء التغذية
على الحطب يطبخون بعض الخضار من الأراضي التي يعملون فيها. واذا غابت الخضار، يأكلون خبزاً مغمساً في الشاي. وهذا ما ترك على أجسامهم آثار سوء التغذية. أما من لم يغادر جفاف الجزيرة من أقرانهم، فتؤكد الاحصاءات أنهم يعانون من الجوع. فحالات سوء التغذية الناجمة عن الفقر زادت بنسبة بنسبة 370 في المئة في الحسكة، و67 في المئة في الرقة، و229 في المئة في دير الزور. أما الارض التي أقام عليها النازحون مخيماتهم، فلها أجر يرتفع وينخفض تبعاً للمكان. لكن النازحين الى كناكر سمح لهم بالإقامة مجاناً، طالما أنهم يعملون عند مالكي الأرض وأما أهل المخيمات الأخرى، فلم يحظوا بهذه الميزة واضطروا الى دفع ايجار الارض التي ينصبون عليها خيمهم. مع أجرة الأرض هناك كلفة الكهرباء. فلكل مخيم عدّاد كهرباء وحيد يخدم أهل المخيم، لإنارة المصابيح. وهناك ايضاً بئر ماء تبعد 200 م من المخيم، يحضرون منها ماء الشرب والاستحمام والطهو والتنظيف. أما مياه الصرف الصحيّ فصنعوا لها أقنية ترابية لتخرج من الخيمة وطبيعة الارض الترابية وقلة استعمالهم الماء النادر، تركتا آثارهما على هاماتهم المغبرة المشعثة.
العزلة والنسيان
مخيم كناكر ككل مخيمات نازحي الجزيرة يعيش أهله حياة معزولة عن أهالي المنطقة، وفقاً لأبو غازي، أحد أكبر مالكي الأراضي في كناكر: "لا نساعدهم ولا يساعدوننا، هم عمال ونحن أصحاب أرض، يعملون ويقبضون، ولا نتعاطى مع بعضنا في غير العمل". يؤكد الشاويش أبو فايز كلام ربّ عمله، ويضيف: "إن فكروا بمساعدتنا، يرسلون ما يزيد من طعام أفراحهم لنا، خير من رميه الى الكلاب". وهم أسقطوا ايضاً من حسابات مساعدات الأمم المتحدة التي اعتبرت النزوح نتيجة مؤقتة لكارثة الجفاف، وهي تعمل على حل المشكلة الأساسية في مكانها لا مع نتيجتها التي شردت 300 ألف شخص على الاقل. وحاولت الأمم المتحدة جمع مساعدات مالية طارئة لسوريا تبلغ 53 مليون دولار، فلم تحصل على أية أموال من الدول المانحة بسب الحظر الاقتصادي على سوريا، فتم الإعلان عن خطة لمعالجة أزمة الجفاف بالتعاون مع الحكومة السورية. المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين التي استجابت مع منظمات الأمم المتحدة الأخرى الى الكارثة، وزعت هذا الشهر 100 ألف حصة غذائية في الحسكة لـ50 ألف شخص، إضافة إلى 5 صهاريج ماء. أما المنظمة الوحيدة التي تعاملت مع النازحين، فهي "اليونيسيف"، فشملت أطفال المخيمات بحملة لقاحاتها الأخيرة. الجهات الحكوميّة لم تقدم سوى أكياس صغيرة، فيها القليل من الأرز والسكر، وزعتها لمرة واحدة سنوياً، في ريفي الحسكة ودير الزور، من دون أن توزع كيساً واحداً في مخيمات النازحين. شح المساعدات رافقه صمت الإعلام السوري، فلم تتحدث أي من الصحف الرسمية والخاصة عن النازحين، إلا في بعض الأخبار الصغيرة عن الجفاف، وموت الزراعة.
جريدة النهار اللبنانية- العدد 23972