جريدة الأخبار – ورد كاسوحة
إذا صحّ الخبر (وهو صحيح) الذي أوردته صحيفة «فايننشال تايمز» قبل نحو شهر عن حجم الجفاف في سوريا، فهذا يعني أننا نسير في خطى حثيثة نحو الهاوية. والغريب في الأمر أن حدثاً بيئياً بهذه الخطورة لم يجد صحيفة عربية واحدة (عدا بعض الاستثناءات) تضيء عليه، أو تفرد له حيّزاً وإن ضئيلاً على صفحاتها. لنقل إنه تأثير التيار المهيمن على الصحافة العربية، وتغليبها بفعل هذا التأثير العامل السياسوي الرديء على مصالح الناس وحيواتهم، وخصوصاً الفقراء منهم.
ومن يقرأ خبر «الفايننشال تايمز» جيداً يدرك أن شبح الجفاف بات يهدّد أكثر من منطقة سوريّة، لا منطقة الجزيرة (شمال شرق سوريا) وحدها، بما في ذلك مناطق مصنّفة حالياً أنها مناطق «خصبة» و«وفيرة المياه». وقد بدأت فعلاً معالم هذا التمدّد بالظهور في أماكن معينة من حمص وحماة على ما تقول الصحيفة. فالمساحات المائية في سوريا قد يصيبها ما أصاب نهر الفرات من انحسار لأسباب لا تنحصر فقط بالاستغلال التركي الفظّ لمياه هذا الأخير.
وإذا كان هذا الاستغلال المتمادي يفسّر إلى حدّ كبير حجم الكارثة في منطقة الجزيرة، فماذا عن اضمحلال الأراضي المزروعة ويبابها في مناطق بعيدة عن الجزيرة؟ مناطق تستمد مياهها من أنهار أخرى غير نهر الفرات (أنهار العاصي وبردى واليرموك وقويق...إلخ). فالمعروف مثلاً عن سكان دمشق أنهم يستجرّون الماء اللازم لاستهلاكهم من «نبع الفيجة» لا من نهر بردى الذي «جفّ» منذ زمن بعيد، وبات مجراه مكاناً «لتجميع» القاذورات والنفايات على أنواعها. ولا نعلم على وجه التحديد ما إذا كانت مياه «نبع الفيجة» قادرة في ظل نمط الاستهلاك المفرط لها على تلبية احتياجات ما يزيد على ثلاثة ملايين نسمة هم عدد سكان دمشق! وإذا أضفنا إلى هذا الكمّ الكبير من السكان أعداداً متزايدة من اللاجئين العراقيين (هذا تحليل واقعي ولا يمتّ بصلة إلى النزعة العنصرية المستجدة لدى البعض في سوريا) ومن النازحين من الشمال الشرقي (تقول الأمم المتحدة إن أعدادهم تفوق ثلاثمئة ألف نازح!) نكون أمام محصلة مأساوية كفيلة باستنزاف كل الموارد المائية (على قلّتها) التي تتغذى عليها العاصمة دمشق. ثم ماذا عن نهر العاصي الذي يروي المنطقة الوسطى في سوريا ويمرّ بحمص وحماة. ألم تتقلّص مياهه إلى حدود غير مسبوقة؟ حدود لا تكاد تكفي حاجة الناس إلى الري والزراعة والاستهلاك.
و«من دون أن نأتي هنا» على أمر يغفله كثير من المسؤولين، يتعلق بحصّة سوريا من نهر لا ينبع من أراضيها، بل من أراضي بلد شقيق. بلد لا تزال مشاكله مع شقيقته تعوق طرحه لموضوع أحقيّته في ماء النهر، وما إذا كان سيقدم مستقبلاً على استغلال هذه المياه بالطريقة التي يراها مناسبة. هل طرح أحد في سوريا على نفسه سؤالاً من هذا القبيل؟ وهل يقدّر الناس في المنطقة الوسطى مدى انعكاس هذا الأمر على أنماط استهلاكهم المستقبلية لمياه العاصي؟
قد يبدو الكلام عن أزمة مياه في حمص ودمشق وحلب بمثابة ترف إذا ما قيس بالكارثة في منطقة الجزيرة، إلا أنه يبقى ضرورياً، كي نتفادى مستقبلاً مصيراً مماثلاً لمصير جيران الفرات.
الجفاف في سوريا دفع الحكومة إلى استيراد كميات هائلة من القمح للمرة الأولى منذ عقد كامل
هذا التخبّط في التخطيط للاحتياجات المائية ليس وليد قصور في الرؤية فقط، بل هو أيضاً وليد نهج كامل في تبديد الثروات المائية. ذلك أن الأمن المائي هو مكوّن أساسي من مكوّنات الأمن القومي لأي دولة، والتفريط به وتركه فريسة لمطامع دول المنبع هو انتقاص من سيادة هذه الدولة على أراضيها. فكما نتشارك سيادياً مع دول الجوار في المعابر الحدودية، كذلك يجب أن تكون عليه الحال في المساحات المائية. هذا المعيار النظري ليس شعاراً «للتشدّق» «بسيادة وهمية» بل هو ضرورة وجودية لتحصيل الحقوق، تماماً كالضرورة الوجودية التي ينطوي عليها نضال الجولانيين لاستعادة أرضهم ومياههم، وانتزاعها بالقوة (إذا أمكن) من إسرائيل.
طبعاً لا يمكن المطابقة بين الحالتين الإسرائيلية والتركية، وإلا نكون قد دخلنا منطقة محظورة تخلط العدو بالصديق (رغم الماضي العثماني البغيض لهذا الصديق)، ولا تميّز بين النضال ضد المحتل لاستعادة الأرض والمياه والضغط على الجار الإقليمي بالوسائل السلمية لتحصيل الحقوق المنقوصة في المياه. والطور الحالي من العلاقات مع تركيا (وخصوصاً بعد إنشاء مجلس التعاون الاستراتيجي وإلغاء تأشيرات الدخول بين الدولتين) قد يساعد النظام في الشام على تذليل بعض العقبات التي تعترض الملف المائي الشائك بين البلدين، ولكن ليس بالقدر الكافي للقول بأن المسألة قد سويّت تماماً. هنا يأتي دور مجموعات الضغط (إذا كان لها من وجود أصلاً) لحمل النظام على تقديم رؤية واضحة لمشاكل الأمن المائي والغذائي في البلد. والأخبار الواردة عن موضوع الأمن الغذائي لا تبشّر بالخير أبداً، إذ إن الجفاف الحاصل في شمال شرق سوريا دفع بالحكومة إلى استيراد كميات هائلة من القمح للمرة الأولى منذ عقد كامل. بكلمة أخرى، أفقد النزوح الكثيف من مناطق الجفاف عشرات الآلاف من المزارعين أراضيهم، وحوّل سوريا، إحدى أهم الدول المصدرة للقمح في المنطقة، إلى مستوردة له، من دون أن تتوافر لدى الجهات المعنية أية بدائل ناجعة عن هذا الاستيراد. وانعدام البدائل هنا لم يأت من فراغ. ذلك أن إنتاج القمح في منطقة الجزيرة لا يمكن التعويض عنه بسهولة، و«من المحال» على أية جهة، حكومية كانت أو غير حكومية، أن تجد مصدراً آخر يوازي في طاقته الإنتاجية ما كانت تفعله عجلة زراعة القمح في تلك المنطقة النائية من البلد. فلا مضاعفة الإنتاج في مناطق أخرى من سوريا ستفي بالغرض، ولا الاستيراد من الدول الغربية المنتجة للقمح (أميركا وبعض الدول الأوروبية) سيؤتي أكله. فحتى هذا الأخير بات ممتنعاً علينا ومشروطاً بأمور لا تمتّ إلى «التنمية المستدامة» و«خطط معالجة الفقر» بصلة. وعلى من يبحث عن أسباب هذه الاشتراطات أن يتمعّن جيداً في ما أوردته «الفايننشال تايمز» عن الموضوع. إذ تقول الصحيفة في خبرها المشار إليه أعلاه إن الأمم المتحدة تحاول أن تجمع مساعدات مالية طارئة لسوريا تعويضاً لها عن موجة الجفاف بقيمة 53 مليون دولار، والمسعى لا يزال متعثّراً نظراً إلى امتناع العديد من الدول الغربية عن التسديد، والسبب طبعاً خيارات سوريا السياسية والإقليمية! (ما نفع توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي إذاً؟). ويمكن القول في هذا الصدد إن سوريا قد بدأت بالفعل تدفع ثمن خياراتها السياسية، بعدما تعذّر ذلك لسنوات طويلة، نتيجة للنهج الحمائي الذي جنّبها (رغم طابعه البيروقراطي المقيت) ولو إلى حين، الارتهان لشروط «المجتمع الدولي» ووصفاته المميتة.
أما اليوم، فالخيارات المتاحة أمام النظام لمواجهة الأزمة ليست واضحة، والبدائل الممكنة عن نهج «التسوّل» من «المجتمع الدولي» غير مطروحة. والمطروح اليوم مزيد من التخبّط، ومزيد من التورّط في النهج النيوليبرالي الذي يتغذى على حالات مماثلة، ويدفع بسوريا شيئاً فشيئاً إلى هاوية شبيهة بالهاوية التي تقبع فيها بلدان مجاورة مثل لبنان ومصر والأردن.
وعزاؤنا في هذا البلد أن وحش الرأسمالية الريعية لم يكبر بما فيه الكفاية، ولم يأت بعد على الجيوب الباقية المناهضة له كما حصل في لبنان ومصر. صحيح أن القطاع العام المفترض به أن يحتوي أزمة كأزمة الجفاف ينازع ويباع بالقطعة، وصحيح أيضاً أن بورجوازيي القطاع الخاص (الطفيليين طبعاً) سيستفيدون كعادتهم من الأزمة الحالية ومن عجز القطاع العام عن حلّها، ويعمدون إلى بيع الأوهام إلى الفقراء (أتصور أن صناعة المياه الجاهزة ستزدهر هذه الأيام!)، إلا أن حظوظ البلد في النجاة من الكارثة لا تزال قائمة. فالمجتمع (ليس كلّه طبعاً) الذي أسقط قانون الأحوال الشخصية القروسطي بالضربة القاضية، وأجبر منظّريه، ومن ورائهم النظام، على التراجع، قادر مجدداً إذا ما توافرت لديه القدرة والرغبة على أن يحمل النظام على مراجعة خياراته النيوليبرالية، والعودة عنها نهائياً قبل فوات الأوان. وعندها لن يعدم البلد (نظاماً وشعباً) الوسيلة الملائمة لحصر الخسائر، سواء قضت هذه الوسيلة بتبنّي خطط واضحة ومحدّدة المعالم لضمان أمننا المائي والغذائي (إن وجدت)، أو قضت بالضغط على دول الجوار الإقليمي لتحصيل ما أمكن من حقوقنا المائية المسلوبة. ولتكن البداية مع الجارة تركيا ما دام الحلم باستعادة مياه طبريّا لا يزال بعيداً.